الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قال الزجاج: معناه: أفبهذا القرآن أنتم تكذبون؟.اللطيفة السادسة: المناسبة بين المقسم به وهو (النجوم)، وبين القسم عليه وهو (القرآن) أن النجوم جعلها الله ليهتدي بها في ظلمات البر والبحر، وآيات القرآن يهتدي بها في ظلمات الجهل والغواية، وتلك ظلمات حسية، وهذه ظلمات معنوية، فالقسم هنا قد جمع فيه بين الهدايتين (الحسية) للنجوم، و(المعنوية) للقرآن فتدبر هذا السر الدقيق.اللطيفة السابعة: قوله تعالى: {لا يمسه إلا المطهرون} ظاهر الكلام النفي، ومعناه النهي كقوله تعالى: {الزاني لا ينكح إلا زانية} [النور: 3] يراد منه النهي، وكقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن} [البقرة: 228] خبر بمعنى الأمر، والمراد بالآية أنهم المطهرون من الأحداث.قال ابن كثير: قوله تعالى: {لا يمسه إلا المطهرون} قال بعضهم: أي من الجنابة والحدث، قالوا: ولفظ الآية خبر، ومعناه الطلب، قالوا: والمراد بالقرآن هاهنا المصحف، كما روى مسلم في (صحيحه) عن ابن عمر: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو» مخافة أن يناله العدو، واحتجوا بما رواه مالك في الموطأ أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن حزم: «ألا يمس القرآن إلا طاهر».اللطيفة الثامنة: قوله تعالى: {وتجعلون رزقكم} هو على حذف مضاف أي وتجعلون شكر رزقكم تكذيبكم بالقرآن، أي تضعون الكفر مكان الشكر، فهو على حد قول القائل:
قال ابن عباس: في تفسير الآية: وتجعلون شكركم التكذيب.قال الألوسي: إن في الكلام مضافا مقدرا أي شكر رزقكم، أو إشارة إلى أن الرزق مجاز عن لازمه وهو الشكر.وقال الثعلبي المعنى: وتجعلون حظكم ونصيبكم من القرآن أنكم تكذبون. .وجوه القراءات: 1- قرأ الجمهور {فلا أقسم} بمد (لا) على أنها نافية، وقرأ الحسن {فلأقسم} بغير ألف بين اللام والهمزة فتكون اللام (لام القسم) وهذا مبني على رأي بعض النحاة الذن يجوزون القسم على فعل الحال فيقال: والله ليخرج زيد، وعليه قول الشاعر:2- قرأ الجمهور {بمواقع} على الجمع، وقرأ حمزة والكسائي {بموقع} على الإفراد لأنه اسم جنس.3- قرأ الجمهور {المطهرون} اسم مفعول من (طهر) مشددا، وقرأ نافع {المطهرون} مخففا من أطهر، وقرأ سلمان الفارسي {المطهرون} بشد الطاء والهاء أصله {المتطهرون} فأدغمت التاء في الطاء. .وجوه الإعراب: 1- قوله تعالى: {فلا أقسم} لا زائدة والمعنى فأقسم، وهذا مذهب سعيد بن جبير، وقيل إنها (لام القسم) ومعناه فلأقسم وقد رده في (الكشاف).قال الزمخشري: ولا يصح أن تكون اللام (لام القسم) لأمرين:أحدهما: أن حقها أن تقرن بها النون المؤكدة، والإخلال بها ضعيف قبيح.والثاني: أن لأفعلن في جواب القسم للاستقبال، وفعل القسم يجب أن يكون للحال.2- قوله تعالى: {لا يمسه إلا المطهرون} جملة (لا يمسه) صفة لـ: (قرآن كريم) وقيل صفة لـ: (كتاب مكنون) وعلى كلا القولين تكون (لا) نافية، وقيل إنها ناهية، بمعنى (لا يمسسه) مثل قوله عليه السلام: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه...» الحديث.قال ابن عطية: والقول بأن (لا يمسه) نهي قول فيه ضعف، وذلك أنه إذا كان خبرا فهو في موضع الصفة، وقوله بعد ذلك {تنزيل} صفة، فإذا جعلناه نهيا جاء معناه أجنبيا معترضا بين الصفات، وذلك لا يحسن في وصف الكلام فتدبره..الأحكام الشرعية: .الحكم الأول: هل في قسم حقيقي؟ وما هي طريقة هذا القسم؟ اختلف المفسرون في قوله تعالى: {فلا أقسم} وكيف نجمع بين هذا اللفظ الذي صورته (نفي القسم) وبين قوله: {وإنه لقسم لو تعلمون عظيم} الذي هو صريح في إثبات القسم؟ على عدة أقوال:أ- قال بعضهم: وهم الجمهور إن (لا) زائدة زيدت للتأكيد، مثلها في قوله تعالى: {لئلا يعلم أهل الكتاب} [الحديد: 29] أي ليعلم، وقول الشاعر:أي كاد يتقطع.بـ:- وقال آخرون: إن (لا) هنا هي لام القسم أشبعت فتحتها فتولدت الألف نظير الألف في قول الشاعر: ويكون معنى الآية: {لأقسم}.وهذا الرأي ضعيف لأن النحاة يقولون: إذا كان الفعل مستقبلا في حيز القسم وجب اتصال نون التوكيد به وحذفها ضعيف جدا تقول مثلا (لأفعلن) ومثله قوله تعالى: {وتالله لأكيدن أصنامكم} [الأنبياء: 57] ولا تقول: لأفعل.ج- وقال آخرون: هي (للنفي) وهو نفي لمحذوف هو ما كان يقوله الكفار: إن القرآن سحر، أو شعر، أو كهانة، ويكون حاصل لمعنى: لا صحة لما يقولون، أقسم بمواقع النجوم، ويكون الأمر فيه نفيا لكلام سابق، وابتداء بكلام مستأنف.وهذا الرأي ضعيف أيضا لأن النحاة يقولون: إن اسم (لا) وخبرها لا يصح حذفهما إلا إذا كانا في جواب سؤال، ثم إنه في مثل هذه الحالة يتعين العطف بالواو كما يقال: هل شفي فلان من مرضه؟ فيقال: لا وشفاه الله... إلخ.د- واختار الفخر الرازي رأيا آخر خلاصته: أن (لا) نافية باقية على معناها، وأن في الكلام (مجازا تركيبيا) وخلاصة المعنى أن نقول: لا حاجة إلى القسم لأن الأمر أظهر وأوضح من أن يقسم عليه، وهذا الرأي جميل لأنه لا يراد به نفي القسم حقيقة بل الإشارة إلى أنه من الجلاء والوضوح بحيث لا يحتاج إلى قسم. .الحكم الثاني: ما المراد بالكتاب المكنون في الآية الكريمة؟ اختلف الفسرون في المراد بالكتاب المكنون.فقيل: هو (اللوح المحفوظ) ومعنى أنه مكنون أي أنه مستور عن الأعين، لا يطلع عليه إلا بعض الملائكة، كجبريل وميكائيل عليهما السلام.وقيل إن الكتاب: لا يراد به اللوح المحفوظ، وإنما يراد به القرآن الكريم (المصحف) فهذا القرآن العظيم كما أنه محفوظ في الصدور، كذلك هو مسجل في السطور كما قال تعالى: {في صحف مكرمة} [عبس: 13] وعلى هذا التفسير يكون معنى {مكنون} أي أنه محفوظ من التبديل والتغيير، ويكون على حد قوله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 9]..الحكم الثالث: ما المراد من قوله تعالى: {لا يمسه إلا المطهرون}؟ اختلف المفسرون في الضمير في هذه الآية الكريمة وهو قوله تعالى: {لا يمسه} هل هو راجع إلى القرآن العظيم؟ أم إلى الكتاب الذي هو على رأي بعضهم (اللوح المحفوظ) فإذا أعيد الضمير على القرآن الكريم يكون المراد من قوله تعالى: {لا يمسه} أي لا يمس هذا القرآن إلا طاهر من الحدثين: الأصغر والأكبر. ويكون النفي على معنى أنه لا ينبغي أن يمسه كما في قوله تعالى: {الزاني لا ينكح إلا زانية} [النور: 3].ويرى البعض أن (لا) ناهية وليست نافية، والضمة التي فيه للإتباع لا للإعراب، والذين قالوا إن المراد باللفظ هو اللوح المحفوظ فسروا المطهرين بالملائكة واستدلوا بقوله تعالى: {في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة} [عبس: 13- 16] فقالوا هذه الآية تشبه تلك فالمراد بها إذا الملائكة..الحكم الرابع: ما هو حكم مس المصحف الشريف؟ القرآن الكريم كتاب الله المقدس يجب تعظيمه واحترامه، ومن تعظيمه وإجلاله ألا يمسه إلا طاهر، ومسألة عدم جواز مس المصحف للمحدث أمر يكاد يجمع عليه الفقهاء، ومن أجازه من الفقهاء فإنما أجازه لضرورة (التعلم والتعليم) فالمحدث والجنب، والحائض، والنفساء، كل هؤلاء يحرم عليهم مس المصحف لعدم الطهارة.رأي ابن تيمية رحمه الله: استدل ابن تيمية على الحكم الشرعي من وجه لطيف فقال: إن الآية تدل على الحكم من باب (الإشارة) فإذا كان الله تبارك وتعالى يخبر أن الصحف المطهرة في السماء لا يمسها إلا المطهرون فالصحف التي بأيدينا كذلك ينبغي ألا يمسها إلا طاهر. انتهى.أقول: هذا هو الحق الذي ينبغي التعويل عليه، وهو ما اتفق عليه الفقهاء من حرمة مس المصحف الشريف بدون طهارة.تنبيه هام:قلنا إن مس المصحف لغير المتطهر حرام، وهذا الحكم لا اعتراض عليه، إنما الاختلاف بين الفقهاء هل هو مستنبط من الآية الكريمة؟ أم مأخوذ من دليل آخر؟فيرى بعض الفقهاء أن الحكم الشرعي بحرمة مس القرآن مأخوذ من نفس هذه الآية الكريمة، لأنه (خبر) يقصد به (النهي) فكأنه تعالى يقول: لا تمسوه إلا إذا كنتم على طهارة.وقال آخرون الحكم ثبت من السنة لا من الآية الكريمة وقد ذكروا بعض الوجوه التي يرجح بها هذا الرأي منها:أ- إن الآيات هاهنا مكية، ومعلوم أن القرآن في مكة كانت عنايته موجهة إلى أصول الدين لا إلى فروعه.بـ:- قالوا الآية خبر وتأويلكم لها يخرجها عن (الخبر) إلى (الإنشاء) الذي يراد به النهي، والأصل أن يحمل اللفظ على الحقيقة.ج- قالوا إن لفظ {المطهرون} يشير إلى ما قلنا وهو الذي تكون طهارته ذاتية وهم (الملائكة) وأما المتطهرين فهم الذين تكون طهارتهم بعملهم نظرا لقوله تعالى: {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} [البقرة: 222] فلو أراد الله سبحانه الإخبار عن وجوب الطهارة لقال: {لا يمسه إلا المطهرون}!!.والخلاصة: فإن السنة والآثار تنص على وجوب الطهارة لمس القرآن فقد ثبت فيما رواه ابن حبان وأصحاب السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتابا إلى أهل اليمن وجاء فيه: «وألا يمس القرآن إلا طاهر».وبهذا قال الجمهور من الفقهاء منهم: (مالك وأبو حنيفة والشافعي) رحمهم الله وقد كان كثير من الصحابة يأمرون أولادهم بالوضوء لمس المصحف، وقصة عمر معروفة وفي هذا القدر كفاية وغنية عن التطويل..الحكم الخامس: ما هي الحكمة من القسم؟ جرت العادة عند العرب أن يستعملوا القسم عند إرادة توكيد الكلام، والقرآن الكريم نزل بلغة العرب، وقد كانت آياته الكريمة تحوي أنواعا من القسم وضروريا من التفنن البديع في توكيد الكلام، وليس المراد من القسم إثبات الدعوى، فالدعاوى لها ما يثبتها من الأدلة القطعية التي ثبتت عن طريق الحجة والبرهان.ثم إن المخاطب أحد رجلين: إما مؤمن بالقرآن، أو مكذب به، فالمؤمن لا يحتاج إلى قسم فهو مصدق بما أخبر عنه الله تعالى بدون يمين، والمكذب الذي لم تغنه الآيات والنذر لن يصدق بمجرد القسم بعد أن لم يؤثر فيه الدليل، فثبت أن المراد بالقسم إنما هو توكيد الكلام ليس إلا ولفت النظر إلى أهمية الموضوع، وأهمية الأمر، فحين يقسم الله تعالى بشيء من الأشياء تتوجه النفس إلى سر هذا القسم بهذا المخلوق متسائلة ما سره؟ وما معناه؟ ولم أقسم به دون غيره؟ وحينئذ تبحث عن الحكمة والسر في ذلك القسم!!
|